بقلم : لواء دكتور سمير فرج
إن التاريخ دائمًا لا ينسى أبطاله من العظماء الذين قدموا لبلادهم الكثير، خاصة في المجال العسكرى، وخصوصًا في الحروب المصيرية، ولقد كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣حربًا مصيرية لمصر وشعبها وجيشها، بعد أن فقدت شبه جزيرة سيناء بالكامل بعد هزيمة ١٩٦٧، وكان يجب أن نسترد هذه الأرض إلى حضن الوطن الأم مرة أخرى، لذلك كان هناك قادة عظام حققوا هذا النصر العظيم، على رأسهم الفريق أول محمد فوزى، الذي تولى شؤون القوات المسلحة بعد حرب ١٩٦٧.
ومعه الفريق الذهبى عبدالمنعم رياض، الذي استُشهد مقدمًا للعالم كله بطولة أول رئيس أركان حرب يُستشهد على خط الدفاع، ثم المشير أحمد إسماعيل على، وزير الحربية في ذلك الوقت في حرب ١٩٧٣، ثم الفريق سعد الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة في أهم لحظات الإعداد للحرب، وهى مرحلة التخطيط والاستعداد لهذه الحرب، واليوم، فإن هدفى أن نلقى الضوء على ما قدم هذا الرجل العظيم الفريق سعد الشاذلى في هذه المرحلة المهمة من تاريخ مصر وجيشها العظيم.
في بداية شهر سبتمبر ١٩٧٣، كنت طالبًا في كلية القادة والأركان المصرية، وحينها أخبرنا السيد مدير الكلية، آنذاك، اللواء عماد ثابت، رحمة الله عليه، أن السيد الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، سيزور الكلية، على مدار يومين، للاجتماع بالدارسين، البالغ عددهم ١٦٠ ضابطًا، من ألمع وأمهر الضباط، من كل أفرع وإدارات القوات المسلحة.
وفى الموعد المحدد، حضر الفريق الشاذلى، وقضى معنا يومين كاملين، من الساعة الثامنة صباحًا، حتى الثامنة مساءً، حاملًا معه «التوجيه ٤١ »، الذي هو خطة اقتحام، وعبور قناة السويس، بعدد ١٢ موجة من قوات المشاة، بعد تنفيذ الضربة الجوية، والتمهيد النيرانى بالمدفعية ضد خط بارليف، والاحتياطيات الإسرائيلية المدرعة، في العمق.
كان الفريق الشاذلى رحمه الله قد أسس، أثناء فترة حرب الاستنزاف، لمبدأ جديد بالقوات المسلحة، وهو إصدار كتيبات، أطلق عليها اسم «التوجيهات»، يقدم، في كل طبعة منها، أفكارًا جديدة لرجال القوات المسلحة، تساعدهم على حل العديد من المشكلات، في فترة حرب الاستنزاف، حتى صدر «التوجيه ٤١ »، ليكون هو الخطة الحقيقية، المفصلة، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، والتى كانت، من وجهة نظرى، هي أساس نجاح حرب ٧٣ كلها.
تم توزيع مسودة «التوجيه ٤١ » علينا، قبل اللقاء بعدة أيام، شريطة بقاء هذه الوثائق في الكلية لدراستها وعرض المقترحات، وقد ثبت صواب، وحسن تقدير، الفريق الشاذلى، في قرار سيادته بإشراك طلبة كلية الأركان في مناقشتها، باعتبارهم النخبة المميزة من ضباط القوات المسلحة، الذين يمثلون قياداتها الحالية والمستقبلية.
كان الفريق الشاذلى قد وضع هذه الخطة، موضحًا تحديات ومشكلات عمليات العبور، واقتحام خط بارليف، وكان منها، على سبيل المثال، أنابيب النابالم التي زرعها العدو الإسرائيلى في عمق القناة لضخ النابالم وتحويل مياه القناة إلى جهنم، تحرق القوات المحاولة للعبور، وكانت منها مشكلة ارتفاع الساتر الترابى، التي يصعب معها أسلوب حمل الأسلحة والمُعَدات والذخائر، كما تعرض «التوجيه ٤١ » لمشكلة اقتحام النقاط الحصينة بخط بارليف، وعددها ٣٢ نقطة، فتم إعداد خطط فرعية، مفصلة، لمهاجمة كل نقطة، وحجم القوات اللازمة، طبقًا لحجم العدو الموجود بها، وعدد الدبابات، وشكل دفاعات النقاط.
فتناولت الخطة، في «التوجيه ٤١ »، أساليب مهاجمة خط بارليف، ومجموعات فتح الثغرات في الساتر الترابى، وأسلوب عمل مجموعات الصاعقة البحرية لإغلاق أنابيب النابالم، وطريقة وتوقيتات دفع المفارز المتقدمة في عمق سيناء لصد احتياطيات العدو المدرعة، ثم عمل مجموعات الدخان لستر قوات العبور، تلت ذلك خطة عبور ١٢ موجة، من قوات المشاة، المدعومة بالصواريخ المضادة للدبابات، بما يضمن وجود حجم مناسب لصد المدرعات الإسرائيلية في كل توقيت، ثم تخطيط ترتيب عبور القادة والقيادات على مختلف المستويات في هذه القوارب المطاطية.
ووصلت دقة التخطيط إلى تحديد الجنود الذين سيحملهم كل من هذه القوارب، وتحديد ما يحمله كل منها من أسلحة وذخيرة، والحقيقة أن هذا التوجيه لم يُغفل أيًّا من التفاصيل، حتى البسيطة منها، لضمان وإتقان النجاح، حتى مكان تثبيت عَلَم مصر في كل قارب، وتحديد توقيت رفعه على الضفة الشرقية للقناة، كما تم التفكير في سترة جديدة للجندى، تناسب تلك المرحلة لتسع كل احتياجاته، من الذخيرة، والمياه، والطعام، لمدة ٣ أيام، وتم ابتكار سلالم الحِبال، التي يستخدمها الجنود للصعود، بالأسلحة والمُعَدات، على الساتر الترابى، وغيرها من الابتكارات والإبداعات التي تضمن تحقيق نجاح المهمة.
استمتعنا، على مدار يومين، بنقاش علمى عسكرى، على أعلى مستوى، في إطار ديمقراطى، أداره الفريق سعد الدين الشاذلى، كنا جميعًا نناقشه، دون رهبة، أو خوف، والكل يطرح أفكارًا مبتكرة، علمًا بأن هذه الحرب هي مصير مصر والأجيال القادمة. كان الفريق الشاذلى، بالطبع، مُلِمًّا بكل التفاصيل الدقيقة، بكل ذكاء، لذلك مع انتهاء اليوم الثانى، كان «التوجيه 41» قد تم تعديله.
وفقًا لنتائج المناقشات والدراسات، وبدأ بعدها إصدار الخطط التفصيلية منه، للجيوش الميدانية، والفرق، والألوية، والكتائب، التي ستقوم بالتنفيذ. وبعدها بأسبوع حضر الفريق الشاذلى بيانًا عمليًّا، تم فيه عرض جميع خطوات وتفاصيل عملية اقتحام قناة السويس، بدءًا من مضخات المياه، التي اقترحها المقدم باقى زكى لعمل فتحات في الساتر الترابى، إلى سترة الجندى المقاتل، إلى سلالم الحِبال، إلى أشكال، ونوعية، القوارب المطاطية.. وبعدها اطمأن إلى توفير كل مطالب، واحتياجات، القوات القائمة بالعبور، واقتحام قناة السويس، وخط بارليف.
وعندما جاء يوم السادس من أكتوبر، كان الفريق الشاذلى في مركز القيادة، يتابع، بنفسه، موجات العبور الاثنتى عشرة، حتى إنه بحساباته الدقيقة، كان يُحصى ما عبر، وما تبقى، من المقذوفات المضادة للدبابات، فيقيس بذلك قدرة قواتنا على صد الاحتياطات المدرعة الإسرائيلية، والتى كانت هي الشاغل الأهم لنا جميعًا لإنجاح عملية العبور. وهكذا نجحت الموجات الأولى من عبور قواتنا إلى الضفة الشرقية للقناة ليضع ٢٠٠ ألف مقاتل مصرى أرجلهم فوق رمال سيناء الغالية، ويتمسكوا بها، أو يبذلوا أرواحهم فداء كل شبر منها.
كانت إدارته للعمليات خلال حرب أكتوبر مثالًا للفكر المسلح بالعلم العسكرى، والخبرة الميدانية، خاصة في ظل مسؤولياته، بصفته رئيس الأركان عن إدارة العمليات، خلال سير المعركة. وسوف تظل ذكراه إلى الأبد، بأنه قائد مخلص وعظيم، قدم لمصر ولقواتها المسلحة فكرًا عظيمًا، خلال التخطيط، وإدارة العمليات، في حرب أكتوبر المجيدة، فأصبح من أفضل القادة العسكريين في تاريخ مصر.. وإن ظلمته السياسة.
وجاء أكبر تكريم لهذا القائد العظيم من السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى عندما أطلق اسمه على أهم محاور الطرق في شرق القاهرة ليكون اسمه دائمًا أمام شعب مصر العظيم تقديرًا واحترامًا لما قدمه هذا البطل لمصر في حربها في أكتوبر ١٩٧٣.