عندما أتصفح الفيسبوك أو تويتر أقابل الكثير و الكثير من الموضوعات و التدوينات التي تأخذني و يأخذني سلاسة أسلوب كاتبها أو مدونها و تشعر و أنت تقرأ أنك نفسك تقول الكلام اللي بيقوله فقررت أن أخصص في موقعنا شعب مصر باباً للتدوينات الحرة لكل من يُحب أن يكتب في موضوع يُفيد المصريين أو يُنعش ذاكرتهم أو يُحيي ذكريات الماضي الجميلة أو يُعطيهم نصيحة مفيدة .الفيسبوك
تخرجت من الكلية الحربية عام ١٩٩٢والتحقت في نهايه هذا العام بقوات الصاعقة حيث لا يقاس الرجال بالكلام بل بقوة الاحتمال او بمعني اخر حين يتم اختبار العظام والروح معًا ،، بعد عام واحد فقط وبالتحديد اكتوبر ١٩٩٣ وقع لي حادث ادى الي كسر مضاعف في ذراعي الأيسر (كسر عظمتي الساعد ) أثناء التدريب ففتح باباً لرحلة علاج امتدت لعام كامل في مستشفى الحلمية العسكري ..
أجريت ثلاثه عمليات جراحية أولها،، لتركيب أربعة عشر مسمار بلاتين لتثبيت العظام ولكنها ادت الي التهاب عظمي شديد استلزم معه جراحة ثانيه لترقيع من عظمة الحوض إلى الساعد
،، وثالثها عمليه لنزع تلك المسامير اعقبها شفاء بنعمة وفضل الله… لكن بثمن باهظ ،، حيث تركَت الإصابة أثارها بندوب ظاهرة بوضوح وثار لجروح عميقه مع تحديد جزئي بحركة دوران الساعد الايسر وفي التقرير الطبي سُطر الحكم البارد «شُفي بعاهة» ،،، كانت تلك العبارة نقطة حمراء في سجلي العسكري تعني بلا مجاملات توقف المستقبل المهني في القوات الخاصة ورفض أي لجنة طبية عليا لأي بعثة تدريبية ،، ورقة واحدة كادت تنهي طريقي قبل ان ابدأ فيه .
السنوات الخمس التالية للإصابه كانت تحمل تحدي للرد على هذا التقرير تدريب يومي ،، صبر وعناد واصرار على أن الجسد إن قادته الإرادة يعيد تعريف حدوده ،، وفي مطلع عام ١٩٩٥ انتقلت الي الوحدة ٧٧٧ قتال حيث زاد الاصرار علي تحدي هذه الاصابه وتقريرها المرفق،،
وجاء مطلع ١٩٩٩تقدمت لاختبارات بعثة تسلّق الجبال بإيطاليا حيث اعترض أطباء العظام في المجلس الطبي العسكري ،، فالإصابة مدونة والأثر ظاهر من الخارج واشعة x توضح شكل العظم من الداخل وحركة الدوران محدودة ،،،
لم أجادل بالكلام تركت الجسد يتحدث عني قمت امامهم بتنفيذ عدد عدة ضغط في دقيقتين بالمعدل القياسي للقوات الخاصة في هذا التوقيت ،، ثم ٢٥ عدة عقلة متشبثًا بأصابع اليدين في خشب حلق باب غرفه الكشف وانا ارتدي بدلتي العسكرية كاملة ،، صمتت اللجنة ثم جاءت الموافقة .
كانت البعثة لضابطين فقط،، نجح معي النقيب هاني جاويش ابن الصاعقة القوي وصاحب الشارب المميز (شنبه كنيش) الذي لا يخطئه الناظر له ،، سافرنا إلى شمال إيطاليا حيث مسرح جبال الألب و هناك كان اللقاء الاول مع المعلم المسؤل عنا وهو المارشل و( دانيلو كولينو) رجل ساخر مرح مدرب تسلق محترف ،، يكاد يكون الوحيد الذي يتقن الإنجليزية مع الإيطالية ،، وفي يوم استلام المعدات بدت أسماؤها الإيطالية كطلاسم بلا مراجع ابتسمت له مازحا وقلت له بالعربية «مش فاهمين من أمك حاجة» ضحك هاني وفهم كولينو روح السخرية منه ،، ثم قال بكلمات جاده لا تخلو من العبث إنه لن يعلمنا شيئاً من المنهج التدريبي للبعثة إلا إذا علمته (أنا) شخصياً كل الشتائم المصرية وشرحت له معانيها ودربته كيف ينطقها بالعربية ،،، فانفجرنا ضحكاً ولم يكن أمامي مفر من التنفيذ ،، بعد ان قال لي هاني (علمه يا خويا الشتايم علشان هيشتمنا بيها كمان شويه ) ،، واكتشفنا لاحقاً ان المجتمع الايطالي المرح يتغذى علي الشتيمه بالايطالي فيما بينهم .
مرت الأيام سريعا حتى مرض هاني واعتزل التدريب للراحه مما اضطر كولينو ان يستبدله بملازم اول أرجنتيني يُدعى بايبي ،، قليل اللياقة صاحب كرش صغير الذي لم يسلم من سخرية كولينو الذي شبّهه بلهجه ايطاليه مشاكسه ساخره بامرأةٍ حامل (يشير بيده لبطنه قائلاً،، بامبينوو) ابتسمت في سري وكتم الأرجنتيني ضيقه بدأ التدريب دوريه سير تتجاوز السبعة كيلومترات في جبال ڤاكيوزيلا على مدق جبلي علي هيئة سلم لانهائي المسافه ،، ثم وصلنا إلى مرحلة بدأ التسلق الصخري نحو القمة والتي اذا وصلنا اليها نتخذ مسار آخر بمدق اخر للنزول الي سطح الارض.
بدأ المعلم كولينو بالتسلق فنتناوب علي تأمينه ثم نتسلق وراءه حتى وصلنا منطقةٍ وعرة و بدأ الإرهاق على الأرجنتيني صاحب (الكرش الصغير) واللياقه المحدوده ،، عرض المعلم كولينو علينا إنهاء التدريب والنزول من مدق جانبي وانتظرت رد إلى الارجنتيني المتوقع بالموافقه لكنه رفض واصر علي استكمال التدريب ،،، حذّرنا كولينو بأن القادم أصعب ويحتاج لياقة عالية وان اي تأخير او تعثر سوف نضطر الي المبيت في مكاننا علي الصخر حتي صباح اليوم التالي ،،، أصر الارجنتيني علي الاستكمال للقمه .
صعد كولينو إلى موضع حاد الميل لأعلي مما يجعله يختفي عن نظرنا ولا نسمع سوى صوته و استغرق عشر دقائق كامله (زمن طويل لمحترف ) للصعود الي القمه ،، الشمس مالت للمغيب أي خطأ يعني مبيتًا قسريًا على الصخر كما ذكرت ،، بدأ الارجنتيني الصعود ،، خمس عشرة محاولة ثم فجأة انزلقت يداه سقط متعلقا بحبل الأمان رأسه إلى أسفل وقدماه إلى أعلى واصطدمت خوذته بالصخر تجمدت الدماء في عروقي صرخت بكل ما علمته لكولينو من شتائم مصريه غضباً وخوفًا من المصير ،، صوت طائرة الانقاذ الهليكوبتر يدور في رأسي وتوابع الموقف لم يكد تستوعبها خبرتي .
قطع الصمت صوت كولينو من اعلى يصرخ ضاحكاً «حاتِم سمعتك وفهمت كل الشتائم » ثم هدأني وبدأ في سحب الأرجنتيني بالحبال كأنما يرفع ذبيحه في المدبح بالحبال وهو لا حول له ولا قوه ،، وجاء دوري إما أن يرفعني بالحبال ،، وهو ما لم أقبله علي نفسي أو أخاطر بالوقت في محاولات التسلق المعتاده والإلتزام بقواعد التدريب .
فكان القرار ،، طلبت من كولينو تثبيت حبال الأمان الرفيعة تثبيتًا قويًا بالصخر ثم تسلقت الحبال بسرعة البرق بذراعي متجاوزًا قواعد التأمين (كنت أعلم ان سقوطي ،، لا قدّر الله ،، لن تتمكن الحكومه الإيطالية من تسليم جثتي لمصر )قبل أن يفيق كولينو من الصدمة كنت واقفا بجانبه صائحاً بالعربيه (صلي عالنبي يا معلم) .
صرخ كولينو في وجهي بكل الشتائم المصرية والإيطالية ،،ثم انفجرنا ضحكًا هستيريًا بينما حدّق الأرجنتيني في ذهول من الموقف ووجهه يقتله الفضول من حديثنا ،، جمعنا ما تبقى من أعصابنا وقوانا وبدأنا الهبوط وفي رحله النزول اتكأ علي الارجنتيني حتى وصلنا نقطة العوده بسلام.
بعد شهور طويله انتهت البعثة وعدنا إلى مصر مرفوعي الرأس أما أنا فكان انتصارًا من نوعاً آخر (انتصار على إصابة كادت أن تغلق طريقي قبل ان يبدأ وانتصار آخر على جملة الشفاء بعاهة في تقرير لم يفهم أن المقاتل حين يتحدى ينتصر بإذن الله ) .