منذ أكثر من ربع قرن، وفى عام ١٩٩٩، أدلى رئيس وزراء اليابان بتصريح لافت خلال حوار صحفى سأله فيه المحاور عن مستقبل اليابان مع اقتراب القرن الحادى والعشرين، فأجاب باختصار وعمق :
سنركز على الشباب ، فهو من سيقود اليابان إلى المستقبل، وإذا تم إعداد الشباب إعدادًا سليمًا فإنه سينجح فى الحفاظ على نفسه وعلى قوة بلاده .. هذه الجملة التى تبدو للوهلة الأولى بسيطة تحمل فى مضمونها فلسفة أمة بأكملها، إدراكا بأن مستقبل الدول لا يصنعه النفط ولا التجارة ولا الجغرافيا، بل يصنعه عقل الشباب وإرادتهم ووعيهم.
وعندما ننظر إلى مصر اليوم، نجد أن الشباب يمثلون حوالى ٦٠ ٪ من عدد السكان، ما يعنى أننا أمام طاقة بشرية هائلة يمكن أن تقود البلاد إلى مستقبل مزدهر إذا أحسنّا إعدادها وتوجيهها ،لكنّ التحدى الحقيقى الذى يواجه مصر، كما يواجه كل دول العالم تقريبًا، هو مدى تأثير السوشيال ميديا فى تشكيل عقول الشباب، فقد أصبح الإنترنت هو المعلم الأول والمرشد الأول والموجّه الأول بالنسبة لهم، حتى فى النواحى الطبية والغذائية والاجتماعية، وباتوا يغوصون وسط محتوى عالمى غير خاضع لأى نوع من الرقابة أو التقييم، فى فضاء مفتوح قد يحمل العلم كما يحمل التضليل، ويعرض الحقائق كما يبث الأكاذيب، ويقدم القيم كما يروّج للانحلال والعنف.
وقد حاولت دول عديدة التعامل مع هذه الظاهرة كل وفق رؤيتها، الصين
كانت الدولة الأكثر قدرة على السيطرة على فضائها الإلكترونى بإنشاء إنترنت خاص بها، منفصل عن الشبكة العالمية، تضمن من خلاله أن ما يصل لشبابها ينسجم مع قيمها المجتمعية والثقافية
أما أستراليا فقد سارت فى اتجاه مختلف، إذ سنت تشريعات تمنع من هم دون السادسة عشرة من إنشاء حسابات على منصات كإنستجرام وتيك توك، وفرضت على شركات التكنولوجيا أن تتخذ «تدابير معقولة» للتحقق من أعمار المستخدمين، وإلا تعرضت لغرامات ضخمة
وفى الاتحاد الأوروبى ظهرت واحدة من أبرز المبادرات التشريعية من خلال قانون الخدمات الرقمية الذى اقترح جعل الحد الأدنى لاستخدام المنصات ١٦ عامًا، والسماح لمن تتراوح أعمارهم بين ١٣ و ١٦ بالدخول بموافقة الوالدين، إلى جانب دراسة إنشاء تطبيق موحّد للتحقق من العمر على مستوى القارة
بل إن دولًا مثل فرنسا وهولندا طالبت بحظر شامل لمن هم أقل من ١٥ عامًا، بينما اتجهت دول آسيوية مثل ماليزيا ونيوزيلندا إلى منع كامل دون سن ١٦ عامًا، وفرضت إندونيسيا شرط موافقة الأهل حتى سن ١٨.
ومن هذا المنطلق، يصبح دور الدولة المصرية فى بناء وعى الشباب ضرورة وطنية ،وتبدأ خطة التوعية منذ المرحلة الثانوية، حيث يمكن لكلمة الصباح، والأنشطة الثقافية، والمسرح المدرسي، والمعسكرات الصيفية ونصف السنوية، والكشافة والمرشدات، أن تلعب أدوارًا جوهرية فى تشكيل الانتماء وتنمية الإدراك، كما أن زيارات المشروعات القومية الكبري, مثل قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية والمصانع الجديدة, تمنح الطلاب رؤية حقيقية لما تبنيه بلادهم وتزرع داخلهم شعورًا بالفخر والمسئولية.
ثم يأتى دور الجامعات، التى يجب أن يعود فيها النشاط الثقافى بقوة من خلال الندوات والرحلات وعرض الإنجازات الوطنية وتفسير التحديات التى تواجه الدولة ودور الشباب فى مواجهتها، كما أن الرد المستمر على الشائعات والأخبار المضللة بشفافية، عبر التعاون مع الجهات الرسمية مثل مركز دعم اتخاذ القرار، التابع لمجلس الوزراء الذى أصبح ضرورة لتفويت الفرصة على محاولات التشويش التى تستهدف العقول الشابة.
ولا يمكن إغفال الدور المركزى لخطيب المسجد فى القري، فهو يمتلك تأثيرًا كبيرًا، خاصة على الشباب المتدينين الذين يثقون به ويستمعون إليه.
ويمكن للخطباء أن يقدموا توعية عميقة حول تحديات الدولة، ودور الشباب فى حماية المجتمع من التطرف الفكرى ومن حملات التضليل، كما أن مراكز الشباب والمكتبات فى القرى والمدن يمكن أن تكون منصات مهمة لتقديم الأنشطة الرياضية والاجتماعية والدورات التدريبية والندوات التى تمنع الانحراف وتفتح أمام الشباب أبوابًا جديدة للتعلم والعمل.
أما القوة الناعمة المصرية, سواء فى الدراما أو السينما أو البرامج الوثائقية, فقد أثبتت قدرتها على التأثير إيجابًا فى وعى الشباب، كما حدث مع مسلسل الاختيار الذى أعاد تقديم بطولات القوات المسلحة والشرطة فى مواجهة الإرهاب، فأعاد تشكيل الوعى الوطنى لدى ملايين الشباب وهذا هو المطلوب الآن من شباب مصر فى الفترة المقبلة.
لكن كل هذه الجهود تحتاج إلى إطار منظّم، وذلك عبر تأسيس هيئة وطنية للتوعية تتبع رئيس مجلس الوزراء مباشرة، يكون لها فروع فى كل المحافظات، وتعمل بالتنسيق مع وزارات الشباب والرياضة، والتعليم، والتعليم العالي، والأوقاف، والثقافة، والقوات المسلحة، والشرطة، هيئة تضع خطة سنوية واضحة تنفذ عبرها برامج توعية شاملة تصل إلى جميع فئات الشباب.
و ينبغى ألا ننسى دور الأحزاب السياسية التى يجب أن تبدأ فى بناء كوادر شبابية حقيقية، تكون قادرة على قيادة العمل السياسى فى المستقبل، وتمتلك الوعى الذى يمكّنها من التأثير فى المجتمع، ونقل هذا الوعى إلى باقى الشباب فى كل ربوع مصر.
وفى النهاية، تبقى الحقيقة واضحة : إن أساليب التوعية كثيرة ومتنوعة، لكن الهدف واحد، وهو الوصول إلى عقل الشاب وقلبه بلغته هو، وبفكره هو، حتى نبنى جيلًا قادرًا على مواجهة التحديات، وحماية وطنه، والمضى به إلى مستقبل أكثر قوة وثباتًا.