مصر – ووفق عقيدتها السياسية والعسكرية الراسخة – تنشد السلام والاستقرار فى الإقليم، وتمارس دور رجل المطافئ صاحب المهارة والقدرة والنوايا الحسنة، لإطفاء كل نار تشتعل فى محيطها، ولا تكتفى بالكلام من خلال تصريحات رنانة، وإنما تبذل جهودا حثيثة على الأرض، وترسم صورة حقيقية للأطراف المتنازعة، عن مخاطر اشتعال النيران، وأن الجميع ستصل إليه ألسنة اللهيب، ولن ينجو أحد مهما تخيل أنه بعيد عن مناطق الاشتباك والاشتعال، فعندما يختل اتجاه الريح والعواصف، تنتقل الشرارة بسرعة إلى كل الاتجاهات .
ومصر – لكونها دولة عريقة – متمرّسة، ولديها قدرة فائقة على استشراف المخاطر الجسيمة، وبما أنها سبقت الدنيا فى التوصل إلى الضمير الإنسانى، وقبل هبوط الرسالات السماوية بما لا يقل عن ٢٠٠٠ عام، وبما إنها أول دولة فى التاريخ وقّعت اتفاقية سلام، وصدّرت نور الحضارة لتبدد ظلام العالم، فإنها تمتلك جينات طبيعية قادرة على ممارسة الصبر الاستراتيجى دون تململ أو يأس.
ولن نسرد نماذج للتدليل على هذه الحقائق، فالأمر يحتاج مجلدات، لكن يمكن إلقاء نظرة على البيانات والتصريحات المتزامنة، القادمة من أديس أبابا، وتل أبيب، ضد مصر، خلال الساعات القليلة الماضية، والتى تجاوزت الكياسة الدبلوماسية، إلى التحرش واستثارة غضب الكنانة، ولو كلفوا أنفسهم بمتابعة سياسة مصر الخارجية خلال العقد الأخير على سبيل المثال، سيدركون أنها أديرت بمهارة وحنكة مذهلة، ورسخت لمصر شكلا ومضمونا، ومؤطرة بنضج مستمد من تراكم الخبرات، فى قراءة الخرائط، وأوراق ملفات المنطقة الساخنة منها قبل الباردة، وقدرتها على إدارة كل ملف، بشكل ومضمون مختلف .
التصريحات، سواء القادمة من أديس أبابا، أو من تل أبيب، لا تحتاج قريحة العباقرة للربط والتنسيق الواضح بينها، رغم اختلاف المضمون، وتوحيد أهداف الرسالة، فالخلاف مع إثيوبيا قائم على رفض التفريط فى الحقوق القانونية والتاريخية، لحصة مصر المائية، وكيفية إدارة وتشغيل سد النهضة بطريقة علمية لا تؤثر على دولتى المصب، السودان ومصر، بينما التصريحات الواردة على لسان المتحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية – وهى متكررة بالمناسبة – تعلن فيها إمكانية فتح معبر رفح فى اتجاه واحد، لإدخال الفلسطينيين مصر، وهو ما قابلته القاهرة بنفى رسمى وبدعوة لفتح المعبر «من الاتجاهين» حفاظا على حقوق المدنيين الفلسطينيين ومنع أى تهجير قسرى .
على خلفية التصريحات الإسرائيلية، المتعالية، قابله رفض شديد اللهجة من جانب القاهرة، ودخل على الخط بجانب مصر، وزراء خارجية سبع دول «الأردن، والإمارات، وإندونيسيا، وباكستان، وتركيا، والسعودية، وقطر»، وأصدروا بيانا يعبر عن القلق إزاء أى خطط قد تؤدى إلى تهجير الفلسطينيين أو فتح المعبر باتجاه واحد، ويشدد على رفض إخراج المدنيين من قطاع غزة دون ضمانات قانونية وإنسانية.
الربط بين تصريحات الحكومة الإثيوبية وحكومة بنيامين نتنياهو، يبدو غير بديهى للمراقب السطحى، لكن بالتحليل وقراءة التحركات الإقليمية خلال السنوات الثلاث الأخيرة على وجه الدقة، يتبين أن كلا من إثيوبيا فى ملف المياه وإسرائيل فى ملف غزة، تتحركان بدافع المصالح، والتعامل بمبدأ «عدو عدوى صديقى» وفى هذا السياق، تأتى التصريحات الصادرة من أديس أبابا ضد القاهرة وبيانات إسرائيل عن معبر رفح، من حيث التوقيت واللهجة التصعيدية، لتؤكد أن هناك تنسيقا واضحا وضوح الشمس فى كبد السماء .
التصعيد الإثيوبى – الإسرائيلى ضد مصر، لا يندرج تحت المواجهة العسكرية المباشرة، سواء بين مصر وإثيوبيا أو مصر وإسرائيل، لكنه مباراة ساخنة فى التأثير والنفوذ، إثيوبيا تستخدم ورقة التنمية والطاقة، لتبرير بناء السد، واعتبارها ورقة قوية فى تعزيز موقعها الإقليمى والاقتصادى، بينما إسرائيل تستفيد من الأفق الأمنى والإنسانى حول غزة لتحقيق أهداف أمنية وسياسية داخلية وإقليمية .
أما مصر، وبوصفها الدولة المحورية تلعب مباراة شطرنج قوية، لتحقيق هدفين رئيسيين، حماية مواردها الحيوية ومنع تصفية القضية الفلسطينية والوقوف بقوة فى وجه التهجير القسرى للفلسطينيين، بالدبلوماسية الخشنة تارة، والناعمة تارة أخرى، من خلال التعاطى الذكى بالتركيز على الشرعية الدولية، والتنسيق الإقليمى .
التصريحات الصادرة من الجانب الإثيوبى حول سد النهضة، ومن الجانب الإسرائيلى حول معبر رفح، محاولات ابتزاز وقحة غير مقبولة، وأن مصر تمارس صبر الصقور، وأن هذا الصبر يتضمن رسالة واضحة مفادها :
الكرامة لا تُشترى، والقوة لا تُقاس بالجسد فقط، بل بالعزيمة والصبر والقدرة والجدارة على النهوض وتجاوز العثرات مهما كانت صعوبتها وتعقيداتها.