الكاتب الصحفي : دندراوي الهواري
النقيصة ليست فيمن يرتدى الجلباب البلدى، ولكن كل النقص فيمن يرى هذا الزى العريق، غير مناسب اجتماعيا؛ كل يراك بعين طبعه؛ ولو يعلم كل من يزدرى الجلباب اجتماعيا، رمزية هذا الزى، ودلالته فى التذكير بعمق الجذور، والزهو والفخر به، بجانب تكلفة شراء قماشه، وتفصيله، وكم من القامات العملاقة فى كل المجالات، يرتدونها، لأصيب بالخجل، وتجرع مرارة الندم.الأندية بشكل عام والجماهيرية على وجه التحديد، وحتى عدد من المقاهى فى بعض المناطق تمنع دخول مرتدى «الجلابية» البلدى؛ وواقعة منع والد لاعب كرة قدم من دخول أحد الأندية لمشاهدة ابنه، أمر سيئ، دفع وزارة الشباب والرياضة إلى التدخل بحسم، والتأكيد على أن الوزارة لا تسمح بأى بنود فى لوائح الأندية تمس كرامة المواطنين أو تميز بينهم على أساس المظهر أو الطبقة الاجتماعية، وأن التعديلات الجديدة على قانون الرياضة ستمنح الوزارة صلاحيات أوسع لمراقبة لوائح الأندية، وأحقية رفض أى لائحة تنطوى على تمييز، ورفض أية قيود على الملابس مثل منع ارتداء الجلابية.الحقيقة أن موقف الدولة متمثل فى وزارة الشباب والرياضة حيال هذه القضية الاجتماعية الجوهرية، أثلج صدور غالبية المصريين؛ فالأمر لا يصدق أن ناديا يمنع والد لاعب من مشاهدة ابنه فى الملعب، بزعم أنه يرتدى الجلباب البلدى، فى عنصرية مقيتة مرفوضة من المجتمع المصرى من أقصى الشمال إلى خط عرض 22 جنوبا؛ ويزداد الاستنكار والغضب من مثل هذه القرارات، إذا كان قرار المنع من ناد جماهيرى، لأن هذه الأندية عمودها الفقرى القاعدة الجماهيرية فى المحافظات التى ترتدى «الجلاليب البلدى»!ومن أشهر من ارتدى الجلباب البلدى، وكان يفتخر به، الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، والمعلوم عنه أناقته فى ارتداء «البذلة وربطة العنق» وهو ما أبرزته وسائل الإعلام المختلفة، ناهيك أن الذى يرتدى «الجلاليب» فى صعيد مصر والوجه البحرى، هم وجهاء المجتمع وأعيانه، وحتى الذين يتمتعون بحيثية فى المجتمع، مثل كبار المثقفين والأدباء والشعراء، وأيضا المستشارين وضباط الشرطة والجيش، من الذين تعود أصولهم لريف مصر «بحرى وقبلى».الغريب أن الأندية تفرغت فقط فى وضع شروط وقيود لمن يدخل مقراتها، بينما تعانى مشاكل جمة فى عدم القدرة على تنمية مواردها، والإنفاق المبالغ فيه فى عقد صفقات باستقدام لاعبين أجانب بملايين الدولارات، ومعظمها تفشل ولا تؤدى المردود منها والتى تقنع الجماهير، إلا من ندر، وأيضا استقدام مدربين يكبدون خزائن الأندية ملايين الدولارات، وبعد الإخفاقات تفسخ الأندية العقود، فيضطر اللاعبون والمدربون للجوء للمحكمة الرياضية وتقديم الشكاوى، التى تحكم بدورها بمعاقبة النادى بتسديد قيمة العقود!وما يحدث فى عقد مارسيل كولر، المدير الفنى السابق للأهلى، خير دليل، ويمثل أعجوبة فى التعاقدات، فالرجل أُقيل من منصبه، وتبين أن من حقه الحصول على كامل عقده، فيجلس فى بيته بسويسرا، ويتقاضى راتبه شهريا، لمدة سنة المتبقية فى عقده، ولا نعرف من حرر مثل هذا العقد، ومن راجعه!وفى الوقت الذى تستقدم فيه الأندية لاعبين أجانب معظمهم فشلوا فى إثبات جدارتهم، وكبدوا خزائن الأندية ملايين الدولارات، تُهمل مواهب مبشرة ورائعة، من قطاع الناشئين، علاوة على إدارة هذا القطاع بعيدا عن الاحترافية، واعتباره قطاع ترضية وتوفير فرص عمل لأهل الثقة والمحسوبين، للتدريب فى المراحل السنية المختلفة، دون النظر للمؤهلات والكفاءة والجدارة الفنية، ورغم ذلك هناك مواهب مبشرة، لا تلقى الاهتمام المطلوب، وتطوير أدائها، فتضيع فى أنفاق النسيان.المؤلم، أن هناك لاعبين من صغار السن تتاح لهم فرصة الاحتراف المبكر والمعايشة فى الأندية الأوروبية الكبرى، إلا أن أنديتهم المصرية ترفض، وتضيع المواهب، ولا يستفيد النادى أو المنتخب الوطنى، منهم، فعلى سبيل المثال، الناشئ محمد هيثم عبدالعظيم مهاجم فريق الأهلى ومنتخب مصر للشباب، لديه عرض للخضوع للمعايشة فى نادى هيرتا برلين الألمانى، بينما نادى بايرن ميونخ الألمانى، طلب المهاجم الشاب حمزة عبدالكريم لفترة معايشة تمهيدا للتعاقد معه بشكل رسمى، وفريق شتوتجارت الألمانى طلب التعاقد مع الناشئ بلال عطية، فما هى مصير هذه العروض حاليا؟ لا نعرف، وهل يستفيد منهم الفريق الأول؟ أيضا لا أحد يمتلك إجابة!ورغم هذا الاهتمام من الأندية الكبرى بالمواهب المصرية، ومحاولة التعاقد معها، إلا أن النادى يرفض منحهم الفرصة، ويفضل التعاقد مع صفقات أجنبية أو مصرية، مكبدين خزائن النادى الملايين، فى تطبيق حرفى لمقولة «شراء العبد ولا تربيته»!
مثلى مسكون بحكايات العفاريت منذ الطفولة، ولاتزال تصحبنى العفاريت سيما فى الأماكن المظلمة، رغم أننى لست ممن يخافون العفاريت، ويقينى أن ما عفريت إلا بنى آدم شقى حبتين.
سرحت فى ملكوت الله، تخيلت هناك من يكتبنى بالحرف، من يتلبسنى دون إرادة منى، من يقرأ ذاكرتى، ويتغذى على معجمى، ويمسك بحروفى، ويلعب بأوتارى، يكتبنى رغما عنى..
قادر ولا يقدر على القدرة إلا ربنا، هناك من هو قادر على إحياء حروف الموتى، يكتب المقفع، والمعرى، وأبونواس، ونجيب محفوظ، وهيكل.
يكتب كل هؤلاء بصنعة واحترافية، يكتبهم كأنهم لايزالون يكتبون الرواية ويقرضون الشعر، ويدبجون المقالات، يصعب التفرقة وبيان الفروق، نفس البصمة، البصمة الأدبية.
فزعت من اليوم التالى الذى ينتظر البشرية على قارعة الألفية الثانية، اليوم الذى تكتب الآلة كتابة البشر، بحروف وأفكار البشر، وقد تتفوق عليهم، تكتب ما لم يكتبوه وموقع بأسمائهم، تندثر الفروق، وتتلاشى المواهب، وتصب جميعا فى قالب الذكاء الاصطناعى.
فى مثل هذا عالم افتراضى (فرط ذكوى)، هل هناك لاتزال فرصة لتفرد نجيب محفوظ، أو لعمق هيكل، أو سلاسة إحسان عبدالقدوس، هل هناك مساحة لإبداع وتفرد وموهبة المازنى، هل هناك نجوم ستلمع فى سماء الإبداع مجددا.. حتى المسرح والسينما والغناء صار ذكيا آليا ليس بشريا!!.
أخاف على العلماء ومنهم، وخوفى على المبدعين أشد، العلماء أخشى يجنون جناية على المبدعين، عندما طوروا هذه الآلة العجيبة وكأنهم فتحوا صندوق باندورا (يحوى كل شرور البشرية).
جناية العلماء حضّروا العفريت، أخشى لن يقدروا على صرفه، وخوفى رعبى من تفوق الآلة الذكية على البشر الأذكياء، أن تهيمن على الدماغ البشرى، تسيطر عليه إبداعا بعد أن هيمنت عليه علميا وتكنولوجيا.
شات جى بى تى (المُحوّل التوليدى المُدرَّب مُسبقًا) أخشى سيقضى تماما على الإبداع البشرى، مقبرة الإبداع، يئد المواهب، شات جى بى تى يهيمن، يسيطر، سرعان ما يستحوذ، لا حدود لقدراته، أخشى تجاوز قدرات البشر المحدودة، مجموع الذكاء البشرى فى شات، خلاصة الذكاء البشرى فى محرك إلكترونى واحد، سيجرى تعميده لاحقا الموهبة الأعظم فى تاريخ البشرية.