الكاتب الصحفي : دندراوي الهواري
لا يمكن أن نكون متجاوزين إذا شبهنا ما يحدث فى المنطقة من حراك خطير يهدد بالتهام دول ببحر من الرمال المتحركة، قادر على إغراق كل من تطأ أقدامه، رماله، وعند المخاطر، وتأسيسا على هذه المخاطر، من المهم اللجوء لكتالوج التاريخ لتفكيك وتركيب الأحداث بدقة، والاستفادة من عظاته، وأن الدول التى تتكئ على تاريخ عظيم، مثل مصر، فإنها تحظى بفضيلة «العظة والقدرة والجدارة» الممتلئ بهم سجلات التاريخ، منقوشا ومنحوتا على الشواهد الأثرية، ومكتوبا على أوراق البردى والجلود والمعادن، وغيرها.
تاريخ مصر، تصرخ صفحاته بسرد قدرات جيش الكنانة، وكيف واجه التحديات وقهر الصعاب وحقق انتصارات شبيهة بالمعجزات، من مجدو إلى قادش، ومن حطين إلى عين جالوت، حتى وصلنا إلى انتصار أكتوبر 1973 المزلزل، الذى يمثل طعنة عنيفة فى قلب الكيان المحتل، وقهر الجيش الذى ترنم بتميمة «الجيش الذى لا يهزم» وكسر أنفه، و«مرمغتها» فى تراب خط بارليف.
وإذا كان التاريخ سرد تفصيليا كيف كان جيش مصر قد حقق الانتصارات الإعجازية، مثل أنه خاض وقوامه 12 ألف جندى، معركة قوية ضد جيش الصليبيين فى حطين الذى قوامه 63 ألفا، ومع ذلك قهره، وبعد 70 عاما خاض معركة عين جالوت، المفصلية، ضد جيش التتار الجرار، الذى كان يبلغ عدده حينذاك 4 أضعاف جيش مصر، لكن يتبقى الفناء الكامل لجيش قوى قوامه 50 ألف جندى فوق الأراضى المصرية، قصة أخرى، لم تأخذ حقها فى البحث والتدقيق والإبراز فى مراجع وكتب وفى وسائل الإعلام بكل مشاربها.
فى سنة 525 قبل الميلاد، قرر جيش قمبيز «الفارسى» السيطرة على عموم مصر، والانتقام من الإله أمون، أبوالآلهة، بهدم وحرق المعبد المقدس لزيوس أمون، أو ما يطلق عليه «معبد الوحى» واستعباد كهنته، فالمصريين كانوا يعبدون هذا الإله التاريخى، ولا يعترفون بحاكم كان من كان، إلا الذى يتخذ من أمون إلها، وينتزع اعتراف صريح واضح من كهنة أمون، لذلك كل القادة الذين حاولوا احتلال مصر، كانوا يحرصون بشدة على التقرب من كهنة أمون وزيارة معبده فى «سيوة» والتشبه بالملوك الفراعنة.
وبالفعل، قرر قمبيز تسيير جيش قوامه 50 ألف جندى، وهذا الرقم فى ذلك التاريخ كان كبيرا وجرارا، عاقد النية على هدم معبد أمون، والتنكيل بكهنته، وإذ فجأة اختفى الجيش الجرار بالكامل من فوق الأرض، وكأن انشقت الأرض وابتلعته، وأصابته لعنة محاولة التجرؤ على الإله الأبرز والأهم فى تاريخ مصر.
هناك روايتان مهمتان حول اختفاء جيش قمبيز المحتل، الأولى، ما أوردها المؤرخ اليونانى، هيرودت، الذى قال: «فصل قمبيز فرقة من خمسين ألف رجل وأرسلهم لمهاجمة واستعباد كهنة أمون، وحرق المعبد المقدس وحى آمون، فى سيوة، وقد شوهد هذا الجيش لآخر مرة فى «جزيرة المباركين» حيث ابتلعته عاصفة كبيرة، ولم ينج منه جندى واحد.
العلماء والباحثون فى التاريخ حاولوا تحديد ذاك الموقع بحسابات دقيقة، وتوصلوا أنه المكان ما بين الخارجة والداخلة.
الراوية الثانية، وردت على لسان عالم المصريات الهولندى الشهير، أولاف كابر، الذى أكد أنه وفقا لاكتشاف أثرى فى منطقة الواحات الداخلة فى مصر، يرجح أن جيشا فارسيا من 50 ألف جندى قيل طويلا إنه اختفى بسبب عاصفة رملية شديدة، ولكن الحقيقة أنه لقى هزيمة هناك على يد ثائر مصرى، أصبح لاحقا الفرعون بيتوباستيس الثالث فى عام 524 قبل الميلاد.
وأضاف «كابر» أن هذه هى المرة الأولى التى يكتشف فيها نقوشا تتعلق ببيتوباستيس فى الواحات، بخلاف نقوش من منف، جنوب الجيزة، وأن «بيتوباستيس الثالث» استطاع تحرير أجزاء كبيرة من المناطق التى احتلها الفرس فى مصر، منها «منف» العاصمة وطهرها من دنس الاحتلال، ونصب نفسه ملكا.
الروايتان تتفقان فى فناء الجيش الفارسى القوى فوق الأراضى المصرية، سواء لعنة أصابته أو ثائر مصرى استطاع دحره والقضاء عليه، لكن يظل اللغز الأكبر الذى يطلق عليه «لعنة الفراعنة» فى الصورة، تدعمها الشواهد الأثرية المختلفة، على جدران المعابد، والمقابر، والتوابيت، والتمائم، المنتشرة فى ربوع مصر، ومسجل عليها نصوص اللعنات، ومن المعلوم بالضرورة أن المصريين وصلوا إلى درجة عالية من السحر، اعترف بها القرآن الكريم فى سورة الأعراف، عندما قال سبحانه وتعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ».
ومن النصوص المهمة الخاصة باللعنات من بين مئات النصوص التى عثر عليها فى الأماكن الأثرية المختلفة، نص يقول: «سيذبح الموت بجناحيه كل من يحاول أن يبدد أمن وسلام مرقد الفراعنة»، وهو النص المنقوش على مقبرة الملك توت عنخ آمون، وكانت بمثابة الوبال الذى أحل على كل من اكتشف المقبرة، والبالغ عددهم 40 باحثا وعالما، وجميعهم لقوا حتفهم بشكل متوالٍ ومرعبٍ.
لذلك، فإن درس اختفاء جيش قمبيز الجرار مجرد قصة من مئات وآلاف القصص الشبيهة، الزاخر بها سجلات تاريخ مصر، تكشف أن هذا الوطن كبير ويمتلك من القوة الرادعة، التى حافظت على حدود مصر ثابتة كما هى دون تغيير من آلاف السنين وحتى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن الكنانة تمتلك لعنات الحماية المقدسة، دينيا، وسخط وغضب جيشها القوى الباسل.