الكاتب الصحفي : دندراوي الهواري
في مقال كاتبنا من خلال اليوم السابع جال في عشوائية الفتاوي في الاقتصاد حيث كتب :
كل متخصص ودارس ويمتلك أدواته، رأيه يُحترم ويُقدر، حتى وإن اختلف معه البعض.. والاقتصاد علم معقد وصعب، ويعتمد على نظريات فنية متخصصة، ويمكن لمن لديه خبرات قوية فى عالم المال والأعمال أن يدلى بدلوه فى مسألة اقتصادية بعينها، وليس فى المجمل، فلا يمكن لشخص أن يدعى امتلاكه الحصرى للفهم فى كل المجالات الاقتصادية، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن الاقتصاد هو أحد العلوم الاجتماعية، الذى يهتم بدراسة السلوك الإنسانى كعلاقة بين الغايات والموارد النادرة ذات الاستعمالات المتعددة.
وينقسم علم الاقتصاد إلى فرعين رئيسيين، الاقتصاد الكلى، والاقتصاد الجزئى.. ويتفرع عنهما علوم كثيرة، تساعد على تفسير ودراسة الظواهر الاقتصادية، ومنها الاقتصاد الدولى والاقتصاد السياسى والاقتصاد الإسلامى والاقتصاد الرياضى والاقتصاد القياسى واقتصاد البيئة والموارد الطبيعية واقتصاد الطاقة والعمل والاقتصاد النقدى والمؤسسات المالية والتأمين والتجارة الإلكترونية والتجارة العالمية والتمويل المالى والمصارف والمؤسسات المالية.
ومن يريد أن يتحدث فى الاقتصاد لا بد أن يكون متخصصا فى أحد هذه الأفرع الحيوية والدقيقة، ولا يمكن لكل من يعمل فى محل لبيع مصوغات الذهب والفضة على سبيل المثال أن يتحدث عن اقتصاد البورصة والسياسة النقدية، ومن لم يكن متخصصا فى السياسة المالية، لا يمكن أن يدلى بدلوه الصحيح فى طريقة عمل البنوك وإدارة المحافظ، وصناديق الاستثمار.
ورغم أن هناك مقولة اقتصادية مفادها أنه ليس بالضرورة أن تكون دارسا للاقتصاد لتصبح من الأثرياء، إلا أن هناك عينة من كبار المليارديرات فى العالم من دارسى الاقتصاد، من بينهم إيلون ماسك ووارين بافيت وستيفن كوهين وكينيث جريفين وهنرى كرافيس، لكن من الضرورى عندما تتحدث عن الاقتصاد لا بد أن تكون دارسا ومتخصصا فى أحد أفرعه.
ورغم هذه البديهيات، فإنه فى السنوات القليلة الماضية ومع انتشار السوشيال ميديا، سقط علينا من سماء الفضاء الإلكترونى بالبراشوتات، بعض من أدعياء الفهم الاقتصادى، عبر فيديوهات على قنوات «اليوتيوب» وتطبيق «تيك توك» يدلون بدلوهم فى القضايا الاقتصادية، ويقدمون نصائح مختلفة فى كيفية الاستثمار وكيف تحقق أرباحا كبيرة، والقضية أن هؤلاء يتحدثون من خلف شاشة التليفونات المحمولة، لا يعرف الناس عنهم شيئا، دراستهم، تخصصاتهم، خبراتهم، والأهم ما هى أهدافهم ومخططاتهم.
فهناك فئة من اليوتيوبرز من العاملين فى السوق العقارى، جميعهم يتحدثون عن عظمة الأصول، وعبقرية الاستثمار فى شراء العقارات، ولا يكلف كل من يشاهد فيديوهات هذه الفئة، أن يطرح سؤالا، هل هذا اليوتيوبر الناصح مستفيد بشكل شخصى من فكرة الدعاية للمشروعات التى يروج لها باعتباره موظفا فى المبيعات لهذه الشركة أو ذاك؟
نفس الأمر ينسحب على اليوتيوبرز العاملين فى سوق الذهب، الذين يخرجون على الناس بنصائح ضرورة اقتناء الذهب، بعلة أنه يحقق مكاسب، تارة، وصيانة قيمة الفلوس، تارة أخرى، وهذه الفئة تتخذ من نهج التحذير الصارخ، ولغة الخطاب القلقة، ما دفع عددا كبيرا من المصريين إلى الهرولة لشراء الذهب وتخزينه، استجابة لهذه النصائح، فقط، ما ساهم فى تكالب الناس على محلات الصاغة لشراء الذهب، وصلت لأطنان، وما قيمته حسب التقديرات، تريليون جنيه، ما يعد تجميد هذه الأموال فى أصول تؤثر بالسلب على الاقتصاد الكلى وحركته، وإيقاف عملية الاستثمار الحقيقى بإقامة مشروعات تحقق مكاسب كبيرة ودائمة لأصحابها.
ولم يسأل من يشاهد فيديوهات اليوتيوبرز الناصحين لاقتناء الذهب، هل هؤلاء مستفيدون بشكل شخصى وأنهم يتقاضون أموالا كبيرة من كبار المتحكمين فى سوق الذهب، لإقناع الناس بشراء الذهب من خلال التحذير والترهيب تحت شعار احفظ فلوسك من تآكل التضخم؟
الحقيقة الثابتة ومن خلال المتابعة الدقيقة، يمكن استخلاص نتيجة مؤلمة، أن فيديوهات اليوتيوبرز ونصائحهم فى الاقتصاد، رافد مهم وجوهرى من روافد أزمة الذهب والدولار وارتفاع أسعار السلع، من خلال تقديم نصائح مسممة، مغلفة بأهداف شخصية لتحقيق مكاسب مالية بالاتفاق مع تجار الذهب ودعم السوق السوداء فى الدولار، وأهداف سياسية خبيثة، لأن هناك عددا كبيرا من هؤلاء اليوتيوبرز ينتمون لجماعات وتنظيمات هدفها إثارة البلبلة، وضرب الاقتصاد المصرى فى مقتل.
الثابت أن السوشيال ميديا، وفى القلب منها «اليوتيوب» و«تيك توك» صارت أسلحة خطر، تؤثر على المجتمع، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ولا بد من مجابهتها والتحذير من مخاطرها الجسيمة، ولا يمكن أن نترك هؤلاء «يتقيؤون» ما فى أجوافهم من نصائح مسممة وقاتلة، وعلى الشعب المصرى ضرورة رفع منسوب الوعى لديه، وإعلاء قريحة الشك فى كل ما يشاهده أو يقرأه على مواقع التواصل الاجتماعى، ويتحرى الدقة، ويبحث عن كينونة المتحدث والكاتب، ولا نترك العنان لسيطرة فضيلة حُسن النية، وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالا عند مشاهدة فيديو أو قراءة منشور، من هو المتحدث ودراساته وإمكانياته العلمية وتخصصه وخبراته؟ وهل يتحدث عبر منبر شرعى موثوق فيه يخضع للمحاسبة، أم يتحدث من تلقاء نفسه دون ضابط أو رابط؟
نصائح اليوتيوبرز فى الاقتصاد، والسياسة والتنمية البشرية، خطر داهم، وتساهم فى صناعة الأزمات، بنظريات الدجل والشعوذة البعيدة عن العلم والعقل والمنطق، وهناك فارق شاسع بين من قرأ بوست أو كتابا، فيتحدث بسطحية مفرطة، وبين المتخصص الدارس الذى يتحدث بعمق.