جاءتنى مكالمة هاتفية من القناة الوثائقية الجديدة المصرية بأننا سوف نصور داخل غرفة عمليات حرب ٧٣ ، وهو مركز القيادة الرئيسى للقوات المسلحة، خلال حرب أكتوبر ٧٣ ، والذى عرف باسم مركز ١٠، بعد أن حصلت القناة على التصديق من وزارة الدفاع بدخول المركز وغرفة العمليات لكى نصور المركز، ونستعرض الأحداث التي تمت خلال حرب أكتوبر ٧٣ من داخل غرفة العمليات التي أُديرت منها الحرب، ولأننى كنت أصغر ضابط موجود في الغرفة في هذا الوقت، حيث كنت برتبة الرائد، وأعتقد أن مَن بقى منّا على قيد الحياة الآن حوالى من ثلاثة إلى أربعة ضباط، لذلك قررت القناة الوثائقية اختيارى لكى نقوم بزيارة هذه الغرفة ونحكى فيها ما حدث منذ ٥٠ عاماً .
وعندما تلقيت هذه المكالمة، انتابنى شعور غريب بين الفرحة والرهبة، وبالفعل ذهبت إلى الموقع، لقد تغير المكان تمامًا، فلقد كان منذ ٥٠ عامًا مكانًا متطرفًا في الصحراء، والآن تقريبًا أحاطت به المساكن من حوله، وتغير المدخل تمامًا، وعندما وصلت إلى الباب الرئيسى، أعتقد أنه عادت إلى ذاكرتى أطياف من الذكريات وصور كثيرة، وانا أنزل من عربتى لأدخل الباب الحديدى، وأنا أهبط الدرجات لأن المركز كان تحت الأرض بعشرات الأمتار لكى يكون محصنًا ضد أي ضربات للعدو الإسرائيلى، حتى لو كانت ضربات ذرية.
ونزلت السلالم ببطء، وأنا أتحسس الجدران والأبواب الفولاذية بين كل مرحلة وأخرى، ومع شريط الذكريات، ومع كل جانب من حوائط المركز، وأتذكر أفراد الشرطة العسكرية وقوات الحراسة والحماية التي تحمى المركز، ثم الهَوّايات التي تنقل الهواء من الخارج إلى داخل المركز الموجود تحت الأرض، وأخيرًا دخلت غرفة العمليات لحرب أكتوبر، والله والله والله ارتعش جسمى وأنا أرى المنضدة التي كنت أجلس عليها منذ خمسين عامًا، حيث خريطة العمل، التي كنا نضع عليها مواقع وموقف قواتنا والعدو الإسرائيلى لحظة بلحظة،
وتوقفت طويلًا أمام ذكريات ٥٠ عامًا. كنت شابًّا صغيرًا برتبة الرائد، ووقفت أمام البنش الرئيسى، حيث كان يجلس أمامى الرئيس السادات بزيه العسكرى، وبجانبه المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية آنذاك، وعلى الجانب الآخر الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس الأركان، ومن بعده اللواء الجمسى، رئيس هيئة العمليات.
من الناحية الأخرى، مازالت موجودة هذه اللوحة الزجاجية.
وخلفها جنود الدفاع الجوى، يرسمون حركة الطائرات المصرية والإسرائيلية، هذه الصورة كنت أشاهدها الساعة ٢ يوم ٦ أكتوبر عندما رأيت على الشاشة عبور ٢٠٢ طائرة مصرية قناة السويس، وساعتها تيقنت أنه قد بدأ الهجوم واقتحام القناة وخط بارليف، وستبدأ موجات العبور بعدد ٢ رحلة بالقوات المطاطية لاقتحام قناة السويس وخط بارليف، وتركت الغرفة الرئيسية. ودخلت غرفة المبيت إلى الداخل، حيث كنا ننام على الأرض، فالمكان لا يتسع للأَسِرّة والمرتبة الإسفنجية، وأنا بداخل sleeping bag.
ثم ذهبت إلى غرفة أخرى، كانت الجامع الذي تؤدى فيه الصلاة، وتذكرت ونحن نؤدى صلاة الظهر يوم ٦ أكتوبر، وبعد الصلاة سألنا اللواء الجمسى يا ترى ممكن نكمل خطة الهجوم ونتقدم للمضايق؟، ورد عليه اللواء البرى مش لما نعبر القناة الأول يا فندم ونستولى على خط بارليف؟!. ربنا يوفقنا ونصد الاحتياطات المدرعة.
وبعدها، دخلت غرفة البوفيه التي كنت أذهب إليها لإحضار كوب الشاى الكشرى الثقيل، وبعدها دخلت لغرفة الطعام، حيث كنا نتسلم باكيت الفطار اثنين ساندوتش، واحد جبنة، والثانى بيض أو مربى، وفى الغداء قليل من الأرز، وربع فرخة، وشوية سلطة، كل هذه الصور دارت في ذهنى وأنا أطوف بالمكان، حتى أسماء الغرف مازالت مُعلقة على الجدران.
وكان المقدم على حفظى آنذاك مسؤولًا عن مجموعات خلف خطوط العدو، ثم غرفة مدير المدفعية، وعلى الناحية الثانية غرف محور الجيشين الثانى والثالث، كل هذه الطرقات، كنت أستخدمها يوميًّا خلال الحرب لأحصل على معلومة من هنا وهناك للمشير أحمد إسماعيل أو الجمسى، وأنا أطوف فتحت تليفونى، وبالطبع كانت ليس هناك إشارة ونحن تحت الأرض، وتذكرت أننا كنا معزولين عن العالم الخارجى طوال أيام الحرب، وتذكرت يوم جاء الرئيس السادات، وطلب أن يستمع لنشرة الأخبار بالراديو، ولم تكن هناك إشارة، لذلك قام رجال الإشارة بعمل توصيلة إلى سطح الأرض لعمل هوائى، وجاء صوت الإذاعة وقتها أول مرة أسمع أغنية من أغانى أكتوبر، كانت وردة تغنى وانا على الربابة،
ثم دخلت غرفة ضباط التخطيط، حيث كان يجلس عظماء حرب أكتوبر، اللواء المحجوب، رئيس الفرع، وضباطه: العظيم صلاح فهمى، الذي حدد يوم العبور والشهر والتوقيت، وبجانبه يجلس العظيم أحمد نبيه، الذي أعد خطة الخداع الاستراتيجى، وخدع بالفعل العدو الإسرائيلى وباقى المجموعة، وبعدها كانت غرفة التحركات العميد ممدوح رضوان، الذي حرّك القوات المسلحة كلها لتدخل منطقة العبور وتخدع إسرائيل، وكانت أمامى باقى الغرف في الممر الطويل، والله وقفت دقائق أتذكر فيها ساعات وأيام عمرى ونحن نحقق أغلى انتصار لمصر في العصر الحديث.
تتبقى من ذلك كله رسالة إلى الرئيس عبدالفتّاح السيسى، أن يتحول ذلك المكان إلى مزار عسكرى لكل الأجيال، توضع فيه تماثيل القادة في كل مكان وعلى الأجناب، خرائط الخطة، جرانيت لتكون مزارًا إجباريًّا لشباب مصر في المدارس والجامعات لكى يتعرفوا على أهم لحظات في انتصارات جيش مصر العظيم في العصر الحديث.
وبالتالى نستغل هذا المكان مثلما حدث في بانوراما حرب أكتوبر، وأن تكون هناك تسجيلات لهؤلاء القادة وتاريخهم الطويل.
المهم أن يتحول هذا المكان إلى متحف يحكى قصة التخطيط وإدارة حرب أكتوبر ١٩٧٣ المجيدة، فهى تستحق بالفعل أن يُعد لها هذا المتحف.