شعب مصر

٤٥٤٤ يوماً

بقلم الكاتب الصحفي / حمدي رزق

تسأل الدكتور يوسف بطرس غالى : كم لبثتَ في غربتك القسرية؟، يجيبك: لبثت ٤٥٤٤ يوماً ، وكل يوم ٢٤ ساعة، وكل ساعة ستون دقيقة، وكل دقيقة ستون ثانية، والثوانى جمرات في دمى .

الدكتور يوسف بطرس غالى
الكاتب الليبى الشهير «إبراهيم الكونى»

محكمة جنايات شمال القاهرة بالعباسية أسدلت الستار على فصل كئيب في حياة الدكتور يوسف، وقضت ببراءته أخيرًا في قضية إهدار المال العام، كما قضت بانقضاء الدعوى الجنائية في قضية فساد الجمارك، هنيئًا بالبراءة المستحقة، البرىء وحده لا يحتاج لشهادة براءة، كما يقول الكاتب الليبى الشهير «إبراهيم الكونى».

حدثته مهنئًا، كان فرحًا كعصفور طار لتوه من القفص، يكاد يرفرف بجناحيه، لسان حاله يُغنى عن سؤاله، وكأن طيب الذكر «إبراهيم ناجى» يتحدث بلسانه: «أعطنى حريتى أطلق يدىَّ..».

هكذا حال الدكتور يوسف الذي غادر القاهرة متهمًا، يلفه الحزن، وظل الحزن ملازمًا له اثنى عشر عامًا حتى تلقى حكم البراءة الأخير، وقبلها محكمة جنايات القاهرة قضت ببراءته في القضية المعروفة بـ«اللوحات المعدنية».

الدكتور يوسف اليوم سعيد، كان ينتظر الحكم على أحَرِّ من الجمر ليسترد اعتباره بين أهله وناسه، ويستعيد مكانته كإحدى الخبرات المالية العالمية، ولسان حاله: «بلادى وإن جارت علىَّ عزيزةٌ.. وأهلى وإن ضنّوا علىَّ كِرام».

وضنُّوا عليه حتى بخبر البراءة الذي نُشر على خجل، مَن كتبوا المعلقات في اتهامه، ونهشوا سمعته، سكتم بكتم، ولا هنا، عاملين من بنها، يبدو أن أخبار البراءة لا تعنى أحدًا.. لا حس ولا خبر، عادة لا يحفلون بالبراءة، آه.. لو كانت إدانة لنُصبت المشانق، ولتبارى المدعون بالحق الوطنى بصلب الدكتور يوسف على حوائطهم الإلكترونية.

معلوم، ثقيلة على النفس الغربة القسرية، تستوحش أيامك، وتحنّ إلى أحبابك، وتودع على البعد خاصتك، بعضهم يرحل دون حتى نظرة وداع.

اثنا عشر عامًا في الغربة، ولم يصدر عنه حرف يجرح بلاده، ولم يَخُنْ بلاده في المضاجع الخارجية، وصمت على مضض، ظل على العهد «رجل دولة» يعِى دوره في ظهر وطنه داعمًا حتى بقلبه.. وهذا أضعف الإيمان.

لم يكن يومًا عبئًا على وطنه، ولا طاف بقضيته على المنظمات الحقوقية، ولا زعم مظلومية، قرر أن يحارب معركته قضائيًّا أمام قضاء وطنه العادل، درجة درجة، حتى ظفر ببراءة مستحقة في نهاية المطاف.

سيعود الدكتور يوسف إلى وطنه (خلال شهور) بعد اغتراب دام طويلًا، رافعًا رأسه، مودعًا أحزانه التي عكست لونها على ملامحه، ولونت شعره فاشتعل الرأس شيبًا.

سيعود خلوًا من مسؤوليات أثقلت كاهله، منذ عام 1986 حتى خروجه من مصر بعد يناير 2011 عاملًا مجتهدًا في قلب «دولاب الدولة»، ندهته النداهة، فلبى مُحِبًّا النداء، واجتهد فأصاب وأخطأ، لكنه حافظ على الأمانة وفيًّا للعهد مخلصًا للعَلَم والنشيد.

لم يظفر بيوم راحة في غربته، آن له أن يرتاح، صحيح الدكتور يوسف عاش خارج البلاد بجسده، ولكن روحه ظلت هنا، ومثله مثل السمك النيلى لا يعيش إلا في مياه النيل العذبة، وحشته الشوارع والحوارى والمقاهى في شارع المعهد الفنى بشبرا.

ربما الدكتور يوسف بطرس غالى كان آخر مَن تحصلوا على البراءة من رجالات عصر مبارك، هبّت عليهم عاصفة من البلاغات الكيدية إبان يناير 2011، عاصفة هوجاء، لفحت الوجوه جميعًا ببلاغات عقورة، أمسكت كالنار بثياب الجميع إلا مَن رحم ربى.