.. وغادرنا وابتسامة حلوة تنير محيّاه، حتى فى مرضه كان خفيفا، لم يتعب أحدًا، كنا ننتظره على أمل، ننظر إليه من وراء ستار، وهو فى الملكوت، يقينًا كان فى عالم أفضل خلوًا من الشقاء.
ترك فينا ما نحمده لذكراه، أخا كبيرا، حنونا، عطوفا، اصطفانا رفاقا لرحلته الأخيرة، واجتهدنا جد أوفياء، كلٌّ قدر طاقته أن نجعل أيامه سعيدة كما يحب ويرضى.
سبحان من له الدوام، إحساسه بدنو الأجل لم يغير طعم الحياة فى فمه، عاشها لحظة بلحظة، يرشفها قطرة قطرة، باستمتاع محب للحياة، لم يسمح للألم أن يعكر صفو حياته، كان يضحك كالطير مذبوحًا من الألم.
إذا جاء أجلهم، غادر مقهاه على قدميه على أمل العودة، انتظرنا عودته صاخبا، ولكنه كان غادرنا صامتا، اللهم ارزقه جنة بقدر السعادة التى منحنا إياها..
لم يسع طيب الذكر «عاصم حنفى» للقب «الكاتب الساخر»، مفطورًا على السخرية، كان يسخر حتى من نفسه، يعالج مواقفه الحياتية بالسخرية، سخريته ضاحكة ذات ابتسامة عريضة، يقهقه عاليا فى وجه الزمان.
كان يسخر من مرضه، ويقاوم شيخوخته بالسخرية، وهو على شرفة الثمانين تحسبه شابًا فى العشرين، روح شاب يسبقنا خطوًا على رصيف شارع قصر العينى، نلهث وراه من فرط شغفه بالحياة.
لم يركن للراحة، مواصلا مشوار الحياة حتى نهايته، بالطول والعرض عاشها محبًا للبشر والأماكن والأصحاب، خاصة رفاق الطفولة والصبا من أكابر حى المنيرة المنير بأهله.
ابن بلد، عِشَرى، صاحب صَحْبه، مصاحب طوب الأرض، سياسيون وفنانين، شعراء وروائيين، وزراء وصعاليك، ابن جيله، ومحب لموهوبى جيله، قارئ فَطِن، وكاتب كتوبة، متفرد لغة، دون تقعر، مخلص لمبادئه التى تميل إلى اليسار حيث يقع قلب الوطن النابض بالمحبة لأغلى اسم فى الوجود.
أن تعيش أهلك وناسك، أن تكون واحدا من الناس، أن تحب ملامح وطنك، أن تملى عينيك من مواطن الجمال، تضحك ملء شدقيك على إفيه لإسماعيل ياسين، وتعشق مارى منيب، وتصاحب عادل إمام، وتبكى مع نجيب الريحانى، وتبهجك يسرا، ويطربك عبدالوهاب، وترقص فرحا بفوز الأهلى.. فات طيب الذكر فوز الأهلى بكأس إفريقيا.
لو كان فى برزخه الحياتى، لكان ملأ المنيرة صخبًا، كان أهلاويًا بامتياز، يناغش الزملكاوية على المقهى، محله المختار، بسيط عادى، مواطن صالح، صاحب واجب ويعرف الواجب، ويُغبّر قدميه إلى سرادقات العزاء متمتمًا بالرحمة والصبر والسلوان.
صاحب صاحبه، ويتكئ على أصحابه فى مشوار الحياة، خفيف الروح لا يثقل على صديق، دافئ، لا يعتريه برود، مشاعره دافئة، تجرحه كلمة، وتغبطه كلمة، وتؤثره عطفة، عواطفه فياضة، يعشق الجمال فى لوحة ربانية من لوحات الطبيعة، كان يتقفى الجمال فى بناية قديمة ترك الزمن ملامحه عليها فى صورة بالأبيض والأسود، من عشاق «ماسبيرو زمان».
دمعته قريبة، عاطفى شديد الحساسية، إحساسه مضبوط، بوصلته لا تنحرف عن مقاصد الوطن العليا، دومًا فى ظهر الوطن، يتحدث بفخار عن مصر التى عاشها بجوارحه، بانتصاراتها وانكساراتها، مؤمن بأنها خُلقت للحياة التى غادرها راضيًا مرضيًا بقسمته ونصيبه.. ألف رحمة ونور على نور العيون.