بقلم الكاتب الصحفي / حمدي رزق
في الأيام الأخيرة، بت أستحضر أدعية الموت كثيرًا، الموت كالطائر يحط على نافذتى لا يكاد يغادرها..
بالأمس، فقدت صديق عمر، وذهبت مع جثمانه إلى مسقط رأسه في «النزلة» مركز أبشواى (بالفيوم)، ليكون مشوارى الأخير بصحبته الطيبة.
رحل ابن أيامى «علوانى مغيب»، وشيع في جنازة تليق برجل طيب.
ألوف المشيعين الطيبين خرجوا من قعور بيوتهم لاستقبال الغائب، وألوف مثلهم قدموا من بعيد، وغصت القرية الطيبة ببشر كثير ينصتون لآيات من الذكر الحكيم بين تدبر وترحم ودعاء للفقيد.
كان مشهدا مهيبا والجثمان يشق طريقه بجلال الموت، وتمتمات التوحيد مسموعة، رويدا رويدا نحو القبر مقتربا مخترقا بيوت القرية الحزينة وحقولها اليانعة، وكأن «علوانى» يلقى نظرة وداع أخيرة على بيوت وحارات شهدت مهده وصباه. سنعود جميعا لاحقًا إلى بلادنا الطيبة، فإذا جاء أجلهم، وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُم سَلَفُنا ونَحْنُ بالأَثَرِ».. ما معناه أنتم السابقون ونحن اللاحقون إن شاء الله.
وداعُ رجلٍ طيب عنوانٌ يلخص المشهد الحزين، عرفته أيام ما قبل ابتسامة الحياة مشرقة في وجوهنا النضرة، كانت أياما، بالسنوات بعيدة ولكنها حاضرة في تلافيف الذاكرة التي باتت تعانى بعض نسيان يؤشر على النهايات التي نترجاها من الله لطيفة بعباده الذاكرين.
استحضرتها.. أيامنا الحلوة بتفاصيلها الصغيرة في مجلة «روزاليوسف» الحبيبة، بأفراحها وأتراحها، لكل منا حلم كبير تحقق بعض منه، كان نصيبه من الدنيا كثيرا من الألم، وبعض السعادة، لكنه كان يعيش أيامه راضيا مرضيا بقضاء الله وكرمه، كان يعتنق مقولة «سيبها على الله»، ومثلها «إرمى حمولك على سيدك»، «سبحانه وتعالى حمل عنا كل الحمول ولم ينس عبده بفضله».
علوانى حكاء، مفطور على الحكى الجميل، يحكى كرجل طيب، ينسج حكاياته على مهلٍ، يعزلها في أناة، وكأن يملك الوقت كله، في حكاياته صور، فيها مس خيال خصب سارح في الحقول الخضراء، حكاياته لطيفة، وقفشات تنعش الروح، إذا رزقك الله بحكاء مثل علوانى مغيب فأنت محظوظ، لن تشبع من حكيه الجميل، حتى مرضه المزمن الذي لازمه طويلا يحكى عنه كصديق.
عرفته راضيا بنصيبه، ولم يصارع قط، ورغم ثقل مرضه عليه لم يتبرم قط، ولم يجفل من الموت قط، جُل أيامه قضاها في غرف العناية المركزة، ولكنه لم يفرط في ابتسامته التي تلون وجهه، ومحبته التي كانت عنوانا، ومزاحه ونكاته.. كان مقبلا على الحياة وهو يغادرها، وكما قال ابن عمر رضى الله عنهما: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك».
مثل هذه الشخصيات الخيالية تبهرك بالرضا والتسليم والقدرية، حتى في النزع الأخير ودموع العين تنساب ملحية تحفر أخدودًا في وجه الحياة، يبتسم متفائلا بالعودة إلى الحياة، وكأنه في وقت مستقطع، استراحة محارب، سيعود إلينا مجددا كما كان يفعلها دوما، وكأنه ولد من جديد.
هذه المرة أخلف وعده مع المحبين، مع زوجته الصابرة «غادة»، وأولاده، وعائلته، ومع الطيبين في قريته الطيبة.. سمعتهم جميعا ينادون عليه مشيعين «مع السلامة يا علوانى»، وكأنهم يودعونه على شريط قطار الحياة على أمل في العودة ولقاء، ولكنه كان الوداع الأخير.
الله يرحمك ويطيب ثراك، وينير قبرك كما أنرت أيامى بمحبتك.