لم يلجأ الرجل إلى الحلول التي استخدمها من سبقوه بترحيل الأعباء والمشاكل والأزمات إلى أجيال أخرى قادمة ويترك الشعب يعيش أحلام الرفاهية ويجلس هو على رأس السلطة يتحدث عن الرخاء القادم والنهضة التي ستتحقق من دون إصلاح أو “وجع قلب
بقلم الكاتب الصحفي / محمد صلاح
ما إن اتخذت الحكومة المصرية إجراءات للتعاطي مع الأزمة العالمية، التي نتجت عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وبينها خفض قيمة الجنيه المصري ووقف استيراد بعض السلع ورفع الفائدة على الودائع بالمصارف، حتى انتهز تنظيم “الإخوان” الإرهابي الفرصة وأمر اتباعه في أنحاء العالم تصعيد الحملة ضد الرئيس عبدالفّتاح السيسي والدعوة للثورة عليه.
وأطلق هؤلاء على يوم الحدث الموعود: “ثورة الغلابة”.
واعتبر كل “إخواني” المشاركة في الدعوة للثورة واجباً دينياً والتزاماً تنظيمياً، حتى أن “إخونجية” غير مصريين كتبوا على مواقع التواصل الاجتماعي انهم سيبادرون بأنفسهم وسيكونون في الميادين يوم الجمعة الماضي لتفعيل الثورة والحشد لها.
لم يتراجع السيسي وإنما واصل اتخاذ إجراءات تهدف إلى تحقيق الإصلاح الاقتصادي، وهو يعلم أن “الغلابة” من المصريين يعانون أصلاً من ظروف معيشية صعبة، وربما أراد أن يثبت أن “الغلابة”، رغم المعاناة، ما زالوا معه يساندونه ويدعمونه ويقفون خلفه في مواجهة دعوة “الإخوان”.
لم يلجأ الرجل إلى الحلول التي استخدمها من سبقوه بترحيل الأعباء والمشاكل والأزمات إلى أجيال أخرى قادمة ويترك الشعب يعيش أحلام الرفاهية ويجلس هو على رأس السلطة يتحدث عن الرخاء القادم والنهضة التي ستتحقق من دون إصلاح أو “وجع قلب”.
من بديهيات الأمور أن السيسي لا يحكم مصر في ظروف طبيعية، وعلاوة على مشاكل قديمة ترسخت إضافة إلى تبعات الربيع العربي الذي تسبب في تخريب الاقتصاد، هناك الإرهاب الذي عطل السياحة والاستثمار، وأفعال “الإخوان” التي تهدف إلى إفشال الدولة وإسقاطها، وجائحة كورونا التي عطلت الانتاج وحاصرت العالم.
“الغلابة” في مصر صفة تطلق على البسطاء والفقراء والضعفاء وجرى تسويقها أخيراً ضمن حملة “الإخوان”، ومن يحترمونهم، للإيحاء بأن مظاهر الاحتجاج لا دوافع سياسية وراءها وإنما أسباب حياتية تخص حتى غير المهتمين أصلاً بالسياسة أو داعمي السيسي ومؤيديه أيضاً، لكن الكلمة نفسها يستخدمها المصريون كذلك للسخرية من كل عزيز قوم ذل بسبب تصرفاته أو أخطائه وإصراره على المضي فيها.
انتفض الشعب المصري ورفض حكم “الإخوان” بعدما رأى أن الدولة تضيع، وأن تركيز التنظيم الارهابي لم يكن لأي نهضة أو إنجاز وإنما كان التركيز على “الأخونة” وهو وزع عناصر وأعضاء الجماعة في كل موقع وأي مكان، بدءاً من المحليات ومروراً بالمؤسسات العامة والأجهزة التنفيذية وانتهاءً بالجيش والشرطة،
وحين عصت كل تلك الأطراف اتهمت من جانب التنظيم بالعمق والعصيان؟ لا مجال ولا مساحة تكفي لشرح كيف كان حال مصر حين خلع الشعب عنها حكم “الإخوان”، وأحوالها الآن، إلى حملات الجماعة ووسائل إعلامها ولجانها الإلكترونية وهرتلة ناشطي مواقع التواصل وثورجية فضائيات الخارج لتشويه الصورة وزرع الإحباط وترويج الكآبة، وهم استغلوا تغلغل عناصرهم في مؤسسات الدولة وانتشارهم في ربوع مصر ومدنها وقراها وأحيائها، ولا يتأخر أي “إخونجي” عن تلبية نداء المرشد وأتباعه في التخريب والإفساد وتعطيل أي إنجاز وتحويل حياة الناس إلى جحيم.
لا تدرك الجماعة أن قطاعاً واسعاً من الشعب المصري يعتبر أن السيسي يسدد فواتير قديمة، ويعالج أمراضاً تسرطنت في الاقتصاد وتمكنت من المؤسسات وتوطنت في الأخلاق والتصرفات،
وأنه يقود مصر في طريق مملوء بالحفر والمطبات والعقبات صنعها ويصنعها “الإخوان” بمعاونة ثورجية الفضائيات ونشطاء مواقع التواصل ممن عصروا “ليموناً” وانتخبوا مرسي ثم راحوا يطالبون الجيش بإنقاذهم ومسح خطاياهم.
الخلاصة أن السير في إجراءات الإصلاح الاقتصادي قرارات لم يجرؤ أن يتخذها رئيس سابق، وحين أقدم عليها أنور السادات عام ١٩٧٧ تراجع عنها بعدما خرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج عليه، لكن الحال اختلف، فتلك القرارات غير الشعبية بالمرة لا يمكن أن يتخذها إلا رئيس شعبي قبل أيام من الموعد الذي حدده خصومه للثورة عليه ليضعهم جميعاً أمام أحجامهم الحقيقية علّهم بعدها يدركون أن الزمن تخطاهم،
وأن الشعب لفظهم وأنه لا مكان لهم في خريطة المستقبل. بدأت الدعوة لـ”ثورة الغلابة” في بث مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تشرح أسباب الدعوة، ورغم محاولات نفي العلاقة بـ”الإخوان” إلا أن كل عبارة سيقت لإبعاد الشبهة، كانت تطبيقاً لمقولة “يكاد المريب أن يقول خذوني”،
فالجماعة كانت حاضرة في كل الكلام، بارزة في أي مفردات، موجودة في حديث كل من تحدث بالعبارات التقليدية الركيكة الواردة دائماً في البيانات “الإخوانية”. لا يستخدم الغلابة في مصر كلمات: “العسكر” و”القصاص” و”الشرعية”، بل يتهكمون على مطلقيها ويحولونها عادة إلى مواد للسخرية من كل ما جرى خلال السنّة التي حكم فيها “الإخوان” مصر قبل أن ينقذها “الغلابة” من التقسيم والضياع.
عموماً ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي ينتظر فيها الناس حدثاً يعتقدون أنه مهم، ثم يفاجأون حين يأتي موعده المحدد بأن شيئاً لم يحدث، وأن الوقت مر دون حتى أن يلاحظوا أن طيفاً أو رائحة أو خيالاً لما توقعوه قد عبر!
لا فرق بين الدعوة لـ”ثورة الغلابة” التي هي إحدى حيل تنظيم “الإخوان” المسلمين للخروج في ذلك اليوم لإسقاط نظام الحكم وبين كل الدعوات السابقة لـ”الإخوان” منذ خَلعهم الشعب وأطاح بحكمهم. الفشل “الإخواني” المستمر في تفسير الأجواء المحيطة بالتنظيم ليس جديداً، فخبرة الجماعة في إسقاط الحكام أكبر بكثير من قدرتها على إدارة الحكم، حتى إن بعض الأشخاص القريبين من التنظيم حذروا الجماعة حين كانت تحكم مصر من أنها تتجه إلى الهاوية،
لكن غرور السلطة وسطوة النفوذ والحسابات الخاطئة كلها أمور جعلت قادة “الإخوان” لا يدركون الحقائق حولهم، ويكذّبون ما يرونه بأعينهم، ولا يصدّقون ما يسمعونه بآذانهم، فكانت النتيجة المنطقية هي خروج الناس للثورة عليهم بعدما رأوا الدولة تكاد تضيع.
لم يستوعب “الإخوان” الدرس، واستقووا بدول وجهات خارجية واعتقدوا أن في إمكانها إعادتهم إلى السلطة، ولجأوا إلى العنف وارتكبوا جرائم وتحالفوا مع تنظيمات إرهابية أخرى وتصوروا أن كل ذلك سيدفع بالشعب إلى الثورة على الحكم الجديد ويعيد إليهم مقعد السلطة فوصلوا إلى الحالة المزرية التي صاروا عليها الآن.
ويبدو أن تركيز إعلام الجماعة على الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار وتدهور العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية جعل قادة التنظيم يعتقدون أن الناس تبكي على أيام حكم “الإخوان”، وأن الشعب المصري في لهفة الى عودتهم من جديد، وأن تحكم البلاد مجدداً من البناية التي كان المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد يستقبلون فيها ضيوفاً للبلاد ويوجهون منها التعليمات إلى رئيس الجمهورية!
قصد “الإخوان” من دعوتهم الأخيرة الحشد للثورة بينما الناس في مصر يسخرون من تنظيم خسر ماضيه وتدهور حاضره وفقد مستقبله وتحول إلى “تنظيم من الغلابة”!