مقالات صحفية

رسالة من غيَابَاتِ الجُبِّ

النهاية الحزينة لقصة الطفل ريان، بقدر ماهى مؤلمة، ملهمة، النهايات الحزينة عادة تفجر ينابيع الحنو الإنسانى، إذ فجأة تحس بأنك إنسان، تتذكر إنسانيتك المنسية فى تلاهى الحياة، وإذا أحسست أنك إنسان ستسعد كثيراً بقدر حزنك وألمك

بقلم الكاتب الصحفي / حمدي رزق

و في مقاله الجديد عبر المصري اليوم تحدث رزق عن الطفل المغربي ريان الذي أدمت وفاته قلوب الملايين من العرب حول العالم و التي إستمرت محاولات إخراجه أيام بعدما وقع في البئر و قبع فيه ما يقرب من مائة ساعة فكتب :

الأقباط متحدون - «هِىَ لله هِىَ لله»!!
الكاتب الصحفي / حمدي رزق

وغيابة الجب تعنى ما غاب وأظلم من البئر، والجب بضمّ الجيم، البئر المطوية.. والجملة تعود إلى قصة قرآنية شهيرة، عندما اقترح أحد «إخوة يوسف» ألا يقتلوه وإنما يكتفون بإلقائه فى قعر بئر عميقة، حتى يختفى عن عين الناظر.. وتقع البئر فى فلسطين فى نابلس.

الجب الذى نقصد هنا بئر ماء عمقها ٣١ متراً تقع فى مدينة «شفشاون شمالى المغرب» وسقط فيها «الطفل ريان» إذ فجأة، ليخلع قلوب العالم خوفاً عليه وطمعاً فى نجاته.

النهاية الحزينة لقصة الطفل ريان، بقدر ماهى مؤلمة، ملهمة، النهايات الحزينة عادة تفجر ينابيع الحنو الإنسانى، إذ فجأة تحس بأنك إنسان، تتذكر إنسانيتك المنسية فى تلاهى الحياة، وإذا أحسست أنك إنسان ستسعد كثيراً بقدر حزنك وألمك.

أن تكون إنسانًاً يتعاطف على البعد مع طفل فى حفرة ضيقة مظلمة، أن تكون إنساناً وتتألم لألم أم قلبها ينزف خوفاً على طفلها فى غيابات الجب، أتعرفون ما غيابات الجب، أن يحتويك ضيق المكان، أن يفصلك عن الزمان، حبيس الجدران الصماء، قصة اللازمان واللامكان، السكون والصمت إلا من صوت نفس رتيب يدخل ويخرج بصوت كصوت بندول الساعة.

أن تنظر من جوف بئر نفسك المظلمة فترى القمر بعيدًاً ويراوحك ضوء النهار بأمل يفج من قلب العتمة فتبتسم للحياة. كلنا هكذا فى غيابات الجب، الجب النفسى والشخصى.

كلنا فى بئر ما له قرار، نعيش فى ظلمة أنفسنا، جوه أنفسنا، بلا مشاعر ولا إنسانيات، فقط أطماع غبية، ورغبات متوحشة، لا نشكر على نعمة البراح، نحن فى براح ربانى، براح الروح.

كل هذا الخواء الإنسانى، نعيش فى دواخلنا، ولا نشعر بالجار المتألم، والقريب المتوعك، والصديق المخنوق، والرفيق الذى تغشاه سحابات الحزن.. غيابات الجب، ومنا من يعيش فى جب نفسه الضيق، لا يسمح بدخول الضوء من خلف ستائر نفسه المعتمة، كمن يرتدى نظارات سوداء ليلاً .

ريان كان يحلم، يا له من حلم، والملائكة تحوطه بكل حنان، تملس على وجهه، وتربت على ظهره، وتسقيه من رحيق مختوم، ريان فى غيابات الجب، يلهمنا درساً لا تأوون فى غيابات الجب طويلًا، لا تصنعوا جباً بأيديكم، وتعيشوا فيه، لا تلعنوا الظلام، ولا تفرحوا بما أتاكم، وكونوا ربانيين، محبين، مسالمين، كونوا رحماء يرحمكم الله، مدوا أيديكم بالمحبة، وأنفقوا من محبتكم لإسعاد الآخرين.

ريان يقول لكم: كما تعاطفتم معى على البعد، الأقربون أولى بالمعروف، هناك فى الجوار من يستحق عطفكم، هناك من هو فى أمس الحاجة لدعائكم، ودموعكم، لا تعدو أعينكم عنهم، وصلوا الرحم، وداوموا على السؤال، ولبوا الحاجات، وكونوا فى العون، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه.

رسالة ريان وصلت للكافة، علمنا، جمعنا على المحبة فى لحظة فارقة، علمنا أن نشهد حقيقتنا، وكيف غارت إنسانيتنا بعيداً، استردناها من عيون ريان، قال لنا بصمته الكثير، وعلمنا من بئره الكثير، ريان أكثر من طفل، وأكثر من حادثة، ريان رسالة للعالم على وقتها.. هل وصلت الرسالة، رسالة بعلم الوصول.. أفهمتم الرسالة، يا ليت قومى يفقهون..؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى