على الرغم من اهتمام الأوساط السياسية في العالم بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن مصر خططّت لتفجير سد النهضة بعد تعّثر المفاوضات وتعنّت الجانب الإثيوبي، إلا أن الأوساط الشعبية في مصر لم تكترث كثيراً لهذا التصريح، وكأنها اعتبرت أن ترامب لم يأتِ بجديد، وأن ما أعلنه مسألة مسلّم بها لدى البسطاء من المصريين، الذين لم يستجيبوا أبداً لتحريض “الإخوان المسلمين” والدول والجهات التي تدعمهم ضد الحكم والجيش مع كل إعلان عن فشل جولة من المفاوضات حول حصة مصر من مياه النيل، والضمانات التي تُصر عليها لتكفل تدفق المياه الى المجرى المائي وفقاً للاتفاقات والمواثيق والقوانين الدولية.
صحيح أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لم يُهدد صراحةً بالخيار العسكري لإنهاء مشكلة السد على رغم فترة التفاوض الطويلة، والفشل المتكرر لجولاتها، إلا أنّه كّرر أكثر من مرة إصراره على الحفاظ على الحقوق المائية لمصر بكل الطرق والسبل والوسائل، وهي العبارة التي فسرها المصريون دائماً أنها تعني اللجوء الى الحل العسكري إذا استنفدت كل السبل الأخرى .
ويثق المصريون في جيشهم بدرجة كبيرة، وهم يَفخرون لِكونه يحتل مرتبة متُقدمة في ترتيب الجيوش في العالم ، وإنْ كانت تُغضب “الإخوان” والدول والجهات المتحالفة مع الجماعة ، فرغم عشرات الأفلام المفبركة التي جرى عرضها على قنوات داعمة للتنظيم لمحاولة الإساءة إلى الجيش المصري أو التأثير في ضباطه وجنوده واصل الجيش حملته ضد الإرهابيين في سيناء وتمكّن من خفض وتيرة عمليات الإرهاب هناك والحد من نشاط الإرهابيين في شبه الجزيرة، وفي الوقت نفسه حظي بإشادات دولية من دوريات متخصصة في العلوم العسكرية، نتيجة التطوير الكبير لتسليحه وكفاءة العنصر العسكري في آن، بينما المصريون يعتبرون أن جيشهم حمل البلد على أكتافه، وعبر بها نفقاً مظلماً وأنقذها من مصير هالك، وبالتالي اذا ما اقتضى الأمر حلاً عسكرياً لمشكلة سد النهضة، فإن القدرات العالية لدى الجيش المصري كفيلة بوضع حد لها.
هذه القناعات التي ترسخت في عقول المصريين على مدى سنوات لا تعود فقط الى المحطات التي خاضها الجيش، ولكن أيضاً لكونهم يعتبرونه نموذجاً لنسيج المجتمع، فالثابت في مصر أن الكليات العسكرية تحرص على تمثيل كل فئات الشعب المصري، ومن كل المناطق، إذ يعج الريف المصري بأبناء فلاحين ينخرطون في الخدمة في القوات المسلحة كما في المدن من أبناء الطبقة الوسطى خصوصاً.
ولاحظ المصريون أن جنازات الشهداء من ضحايا الإرهاب تتّوزع بين محافظات مصر ومدنها وقراها وأن أسرهم يمثلون فئات المجتمع كافة.
وربما كانت تلك الثقة وراء رد الفعل الهادئ في الأوساط الشعبية تجاه كلام ترامب الذي خضع لتحليلات وتنظيرات وتفسيرات في برامج تلفزيونية ومراكز بحثية ونقاشات الخبراء الاستراتيجيين.
ملخص ما قاله الرئيس الأميركي، أنه لا يمكن أحداً إلقاء اللوم على مصر بسبب غضبها من التجاوزات الإثيوبية في ما يتعلق بسد النهضة الذي يؤثر سلباً في مياه النيل، موجهاً حديثه خلال مكالمة هاتفية مع رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، “أن الوضع غاية في الخطورة… مصر لن تستطيع العيش بهذه الطريقة… وسينتهي بهم الأمر بتفجير السد، ولا يمكن أحداً أن يلومها على ذلك”، مؤكداً أنه يرفض التجاوزات الإثيوبية بخاصة بعدما كان قد تم التوصل إلى اتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا تحت رعاية أميركية، لكن انسحبت إثيوبيا منه في آخر لحظة.
وقال ترامب إن مصر لديها كل الحق في حماية حصتها في مياه النيل، مؤكداً أن تجاهل إثيوبيا للاتفاق هو أمر غير مقبول ما دفعه لفرض عقوبات على إثيوبيا وإيقاف عدد من المساعدات.
بالنسبة الى البسطاء من المصريين، فإن أهم ما استنتجوه من كلام ترامب أن بلاده ليست متورطة في مؤامرة تتعلق بقضية السد ضد بلدهم، إذ ليس سراً أن قناعات كانت ترسخت لديهم بأن مؤامرة تُحاك لوا أنفسهم بالأسباب التي دعت ترامب الى الإفصاح عن الأمر، أو الرد على التحليلات التي طرحت مخاوف من أن يكون الرئيس الأميركي قصد نصب مكمن للرئيس عبدالفتاح السيسي وجَر مصر الى حرب مع إثيوبيا، كما حدث قبل سنوات بالنسبة إلى الحالة العراقية واحتلال الكويت، إذ إن المصريين يُدركون أن العالم كله يعرف أن مصر لا تبحث إلا عن حقوقها.
قد لا تتوافر في مصر عناصر كثيرة للبهجة في بلد يعاني ضغوطاً اقتصادية ومشكلات حياتية وآثار فوضى وحكماً لجماعة سعت إلى “أخونة” الدولة والرجوع بها سنوات إلى الخلف، لكن الشعب المصري يدرك أنه يسدد ثمن حفاظه على دولته موحدة، ونجاته من مصير مهلك بعدما ضرب الربيع العربي دولاً أخرى فقسّمها وشتت شعوبها، لكن قضية المياه لا يمكن أن تقارن بأزمات أخرى استطاع المصريون تخطيها وتجاوزها والانتصار على صناعها، وهم على ثقة بأن احتياجاتهم من مياه النيل لن تتأثر مهما طال أمد التفاوض أو التعنت الإثيوبي، أو الاعيب ومؤامرات وتحريض ضد مصر، وأن جيشهم قادر على أن يكتب لذلك المسلسل الطويل كلمة النهاية.